العزف علي أوتار المشاعر

روز الزهراء تنفرد بالحوار مع الفنان العالمي نصير شمة أثناء زيارته للدقهلية

shamma.jpg

- ما إن نبدأ بالإصغاء إلى نصير شمه، حتى تشاركنا العين الأذان في الإصغاء، وتمتلئ ذاكرتنا بشتى الصور والعبارات. فنصير نبرة متمردة في الموسيقى العربية، وهو يتعامل مع التراث بعيدا عن التنميط المتداول، مجددا في الأداء كما في اللحن. مالئا هذا الأخير بأنغام وتلاوين وصور مشحونة بالمشاعر المرهفة. نحن إذن حيال فنان أن تكون أعماله ومعزوفاته مصدراً للطرب الغير المبتذل، فرفعها إلى مستوى التأمل في مستقبل الوطن ومستقبل أهله. نصير شمه، يبدع لموسيقى تسعى إلى بلورة وعي ثقافي جديد يرتقي بالمواطن العربي من منزلة “مستهلك ثقافي” إلى منزلة المبدع القادر على تأكيد حضوره في العصر والعالم، وعلى افتكاك موقع متميز في خارطة الإبداع والابتكار. وعطاء نصير شمه لا يقتصر على هذا الموقف الاجتماعي الإبداعي فقط بل التجديد على الصعيد التقني أيضاً. ولد نصير شمه في مدينة الكوت بالعراق عام 1963، وأكمل دراسته الجامعية في معهد الدراسات الموسيقية في بغداد عام 1987. بعدها تخصص بعزف العود، يعد نصير شمه واحدا من أبرز الموسيقيين العرب الذين برزوا بجدارة منذ بواكير نهاية القرن العشرين، مع تراكم منجز كمي ونوعي لافت. فدخل القرن العشرين بخطى ترسخت بجوائز تقديرية وتكريمية بما قدمه من تأليف موسيقي منفرد. عمل بدار الأوبرا المصرية، كما عمل على مشروع تأسيس فرقة عيون لموسيقى التخت العربي، وتميز عمل نصير شمه باستلهام التراث العراقي القديم والشعبي مع انفتاح على مأثورات المنجز العربي الجديد مثل تحويل خمسة قصائد لمحمود درويش إلى قطع موسيقية. عام 1988 تعاون شمه مع المخرج التونسي المنصف السويسي على انجاز مسرحية البلاد طلبت أهلها، كما استطاع نصير شمه أن يحول مقطوعته المسماة “العامرية” إلى أداء مسرحي عال. التقيناه في هذا الحوار لنستنطق أحاسيسه، هواجسه، قلقه، سألناه عن الموسيقي والعزف المنفرد، عن الشعر والرسم والمسرح والغناء، عن الحب والوطن والحلم، عن العراق والحرب والاحتلال، عن الوطن والغربة، عن العود والحياة فحدث أن كان هذا الحوار..

هل هناك علاقة بين العود والحلم والغربة؟

* أنا لم أراها من نفس الزاوية هذه أو نفس هذه القراءة أنا أرى أن الإنسان يبحث عن أول الخيط لتحقق حلمه، والحلم ربما يكون مشروع موازي للحياة أو هروب أحيانا من للحياة أو أفق أخر للحياة، فكانت الأحلام كلها صوب حلم ما، و حين وجدت العود وجدت أن الحلم فعلا بدأت أتلمس أول هذا الحلم فأحسست وخصوصا أني جرّبت الكثير من الأشياء ولم أجدها مناسبة لي بعد فترة بسيطة، فصار عندي شعور ويقين أنه هذا هو المشروع الذي كنت أحلم به وأن كل أحلامي ستمر عبر طريقه أو بوابته فكان العود وكان اللقاء وكان لحدّ هذا اليوم تحقق ذلك، شعور الرهبة الأولى التي شفت فيها العود والمشاعر الأولى التي كانت في الطفولة أنبأتني بما سيأتي من بعد وهو حاصل هذا اليوم بمعنى أنه توجهت كلّ حياتي، تركت كل الأشياء التي كان ممكن تأخذ اهتمامي وبدأت أفكر بأفق العود، بمستقبل العود، بحياة العود، بما يمكن أن يخرج من العود، وبمناطق جديدة فيه غير مسبوقة أو استنطاق ما هو جديد في العود، أو ما هو كامن داخل عالم بوسط صندوق خشبي مجوف من الداخل، لكن مليء بالأسرار وبالرموز الغير مرئية التي تحتاج إلى جهد عظيم في فرزها وإعادة تقديمها، وإعادة قراءتها فمن هنا أنا وجدت أن هذا اللقاء لم يكن اعتباطيا ولم يكن صدفة بل كان.. القدر فعلا يرسم أحيانا خطواتنا.

علاقة الإبداع بالذاكرة علاقة قوية كيف تراها؟

* أنا أرى أن الذاكرة هي خزان للأفكار وخزان لوقود المادة الفنية، بمعنى أن المادة الإبداعية والفنية أحيانا يكون وقودها الذاكرة. في لحظات الراحة أنت تتذكر كل شيء مرّ في حياتك، وفي لحظات القلق والتعب أيضا تتذكر الأهوال الكبيرة التي مرت بك، وفي كلتا الحالتين تجد نفسك بحاجة إلى أن تقول شيء تجاه ما حصل، تجاه الذاكرة، إذا كانت معطوبة أو إذا كانت إيجابية، تحتاج إلى أن تعبر عنها وأن تفرغها شيئا فشيئا، لأنه في الحقيقة ما كان ذاكرة قبل ثلاثين سنة وعشرين سنة وعشر سنين هو ليس نفسه اليوم الذاكرة بحاجة دائمة إلى تجديف وإلى طرد القديم منها، الذي انتهى وعبرنا عنه وتكلمنا عنه، كل شيء أتكلم عنه موسيقيا بعد ما يعود ضمن الذاكرة، يخرج خارج الذاكرة، يصبح موضوع مطروح على الورق أو على الطاولة أو على العود، آنذاك نفسح المجال لمادة جديدة ربما تشكل ذاكرة مستقبلية.

البحث في الأشياء له جماليات حدثني عن هذه التجربة وكيف تأثرت بشجرة الصنوبر؟

* هو هذا، مشروع متواصل في البحث، مشروع متواصل في اكتشاف الأشياء في إيجاد الجماليات، حتى في عز القبح هناك فرصة لأن تجد جماليات وتعيد النظر في قراءتها المهم نظرتك أنت كانسان تكون ايجابية لما حولك.

- أنا أقصد ذاكرة المكان: شجرة الصنوبر؟

* المكان له تأثير كبير ليس له ذاكرة، ذاكرتنا نحن هي التي تؤثث الأمكنة. في الحقيقة نحن نعلم أن الأمكنة جماد لكن نحن نؤنسنه، نجعل فيه بعدا إنسانيا ونعشق هذا المكان لأن ذكرياتنا تشكلت فيه، ونكره مكان لأنه مرتبط بذكريات سلبية فيه، فالمكان يلعب دورا كبيرا، أنا شخصيا في حياتي يلعب دور كبير ويؤثر كثيرا في عملي وفي عطائي وفي طريقة تقديمي للأشياء. هناك طاقة ايجابية أو سلبية، فورا أشعر بها في دخولي أي مكان وهذا حصل في حفل العبدلية بتونس، أحسست أن المكان أعطاني طاقة مهمة جدا جعلني أعزف على امتداد أكثر من ساعتين بإحساس متألق وبسيطرة وبتركيز عال، على قرابة الثلاثين عود حولي كنت مسيطر على كل شيء في لحظة ما مررت بلحظة وهن واحدة، بينما في قاعة حديثة ممكن أن تحدث حالات وهن في عرض طويل بهذا الشكل. فالمكان يملأ أحيانا ذاكرة الناس التي مرت به، والتي مازالت في أرجائه أرواحهم موجودة، أحيانا عندما تكون صافيا، نقيا، تخترقك هذه الأرواح، تخترقك وتعطيك معلومات وتعطيك أفكار ومواضيع، فهي ذاكرتنا،

* ذاكرتي هي التي خرجت في أعمال موسيقية كثيرة جدا، ولو تتابع أعمالي، عندي مثلا أول قطعة اشتهرت كثيرا اسمها من الذاكرة، قطعة ثانية اسمها امرأة في الذاكرة، ثمة قطع كثيرة تحوم حول الذاكرة، لكن بمسميات مختلفة يعني تداعيات الذاكرة دائما حاضرة بأعمالي.

- الجرح والدمار النفسي والجراح ماذاتمثل للفنان؟

* العقاب أحيانا… هذا يرجعني إلى نظرتك للأشياء، كيف تقرأ الأشياء، العقاب يحدث أحيانا رد فعل عكسي في تبني الشيء الذي عوقبت بسببه، حين عوقبت بالقلم كان كل التلاميذ يعاقبون، الذي لا يقوم بواجبه، الكسول والذي يحدث شغب ومشاكل في الدرس، يضعون قلم بين أصابعه ويضغطون عليها بقوة فيتألم، مرة ثانية سيحاول بالتأكيد تفادي ذلك. لكن عندما شعرت أنه ليس هناك سبب، شعرت في تلك اللحظة بالخوف والهوان هذا الشيء دفعني إلى رد فعل عكسي وخصوصا أن العود الذي مسكته داعبته برقة شديدة وتعجبت لخفة وزنه كنت أعتقد أنه صندوق ثقيل جدا، لكن خوف الأستاذ على آلته جعله يعاقبني. لم أكن أستحق العقاب فحدث رد فعل عكسي وقررت أن أتعلم وأن أصير بعد سنة أحسن من هذا الأستاذ وهذا تحقق فعلا ففي السنة الثانية بدأت أشق طريقي بمدينتي ” الكوت ” وبعد ذلك المحافظات ثم بغداد.

-ارتبط العود في ذاكرتك بالتاريخ كم عمر العود في الحضارة؟

* حين أقول تاريخ، أعني أن هذه الأداة استطاعت أن تعيش أكثر من أربعة آلاف عام وهذا عمر ليس سهلا، لم تستطع آلة موسيقية أن تصمد هذا الصمود وأن تكون آلة أولى لدى كل الحضارات والأقوام التي عاشت في بلاد بين النهرين وحضارات وادي النيل وما بينهما وما جاورهما، قادرة آلة على أن تكون مطواعة لكل زمن، ولكل فكر، ولكل المتغيرات، هذا الشيء لا يمكن المرور عليه بشكل طفيف أو بشكل خارجي، لابد من التعمق، كيف استطاع العود أن يصمد؟ وكيف استطاع في الفترة العباسية أن يكون في عز ازدهاره؟ وكيف استطاع أن يكون في بابل، في المعابد الدينية، وسيلة للعبادة؟ كل هذه الأشياء جعلتني أشعر أنه عليّ أن أستقرئ التاريخ من خلال هذا الصندوق الصوتي.

- والجزء الثاني من السؤال؟

* أما جغرافيا الروح، فهذه تعني. لو كنت موجودا لشعرت إلى أي مدى هي موجودة في عملي الموسيقي لأن الجغرافيا الداخلية للإنسان تتنقل معه أينما يكون، يعني أنا أؤثث وطني أينما أكون، أؤثث بيئتي أينما أكون، أؤثث المدن التي أمر بها، وتمر بي، أينما أكون أشكّل العالم الذي هو صدى الصوت الذي بداخلي. فبالأمس كنت أعزف أعمال عن ذكرياتي في أسواق ـ وأنا نادرا ما أمشي في أسواق ـ في أسواق اسطنبول وحلب وتونس، مثلا قطعة اسمها ” شقلاوة ” مدينة عراقية كنت أذهب لها في العطلة الصيفية، هذه المناطق التي لها علاقة لها في الحقيقة بجغرافيا الروح أكثر من جغرافيا المكان. لماذا؟ لأن ثمة مناطق أنت تتماهى فيها، ومناطق تتماهى فيك، التي تسكنك هي المناطق التي تؤسس جغرافيا روحك فيما بعد.

- كان سبق لكارل غاستوف أن طرح ما يسميه الاعتناء بالظل، ويقصد به ذلك القرين الذي يسكننا ونسعى بوعي أو دونه، إلى تبكيته وحمله على الصمت، كما سبق لكم أستاذ نصير أن طرحتم ما أسميتموه الاعتناء بالصورة، أو أن أرى الموسيقى / المشهد المسموع، وحمله على النطق. فماذا تضيف الصورة المسموعة خاصة إذا كانت مجرد فكرة أو ذاكرة؟

* أوّلا، حين تتكلم عن صورة تتكلم عن أبعاد، وتتكلم عن ظلال، وعن تشخيص، وعن تفاصيل. فالصورة هي واجهة للحياة، هي اللحظة التي تجمد فيها شكل ما، ولكن في الموسيقى تعيد هذا الشكل للحياة من جديد وتخلق من خلال هذه الصورة التي اقتنصتها في لحظة ما. وأردت أوّلا التعامل معها بقراءتها، ثم إعادة رسمها لدى الجمهور وهذه مهمة صعبة جدا إذ كيف تتمسك بقناعاتك، ورؤيتك، وما تقدمه للناس، وما يفهمه الناس، تقدم ما تشاء، لكن هل يفهم الناس كل ما تشاء، هذا صعب. العلاقة هذه بين أن تفهم وأن تستوعب، وبين أن تتمنى وبين أن تنقل للناس، وتوصل هذا الإحساس، هذا في غاية الصعوبة خاصة في الموسيقى العربية تحديدا. بشكل أدق لأن الموسيقى الكلاسيكية الغربية استطاعت أن تخلق تقاليد كبيرة وجسور من الفهم بينها وبين الناس. ثرائنا نحن يقف على أنغام وعلى مقامات، لا يقف على مؤلفات، ولا يقف على أشكال موسيقية، فعلينا نحن أن نخلق، ونبتكر، ونوصل، ونقنع، ونقتنع، يعني المسألة فيها جهد كبير وجبار. بهذا الصدد تحديدا الموسيقى لعبت دورا بما يتعلق بمسيرتي المتواضعة دور مهم لأنها حولت أحداث كثيرة حولي بضوئها وظلالها وعتمتها وآلامها وفرحها، إلى أعمال موسيقية، وكيف أن الناس صارت تشعر بها وهي في قلب الصورة، وفي قلب الحدث، وفي قلب المكان، من خلال الموسيقى وهذا شيء ربما سيحسب في المستقبل.

- هل صادف أن أصرّت موسيقاك على تصوير ما لا يقال في محيطك الاجتماعي، الذي أفترض أنه انضباطي؟

* كل شيء قيل لم أقله في الموسيقى. بمعنى دائما أذهب لما هو خفي للتعبير عنه، لأنك حين تتعامل مع الأشياء التي هي موجودة في السطح لا يمكن أن تكون بدرجة ما عميقا في قراءتك للأشياء. أنا دائما أعمل إلى ما بعد الصورة الظاهرة لذلك لا يمكن أن أقف عند سطح المكان وبالتالي كل شيء قيل لا أتقرب منه. أنا دائما أبحث عن ما لم يقل لأتحرك فيه ولأخلق فيه لغة جديدة وإلا ما فائدة العمل الذي أقدمه.

موسيقاك وا- كل فنان كما بين هنري ميللر، إنما يقاوم مركب الإحساس باللقاطة، إن كان ذلك صحيحا، فأي علاقة بين لإحساس باللقاطة؟

* هنا المعنى رمزي كثيرا.. المقصود تماما في هذه النقطة، حسب فهمي، هو عدم ارتباطك بكل شيء، عدم ارتباطك بمحيطك. من يحمل موهبة ويحمل فكر مع الموهبة يحمل في نفس الوقت أدوات انقطاعه عن محيطه، ويصبح كائن منقطع عن كل شيء ( ….) لا هو ليس فقط بالسلطة هو علاقة المبدع بانقطاعه عن محيطه عن بيئته، هو الوجود الغير شرعي، هذا ما تعنيه الكلمة لكن هو الوجود الغير شرعي المعكوس، علاقته الغير شرعية بالمحيط كله، وفسر فيها السلطة ولتكن خانة. أنا أعتقد أنه على حق لأن علم من يفعل في مجال إبداعي أن لا ينسلخ عن بيئته ويتبرأ عنها وعن محيطه وأن لا ينصاع أيضا إلى ما هو سائد وما هو تقليدي وما هو بديهي، عليه أن يفكر بمنطق مغاير للمجتمع وينسلخ وربما يكون لقيط من ناحية الفكر تجاه ما هو سائد، لا ينتمي بمعنى يستوعب، و يقرأ، ويفهم، لكن لا يجب أن يفكر بنفس المنطق الذي يفكرون به.

- لمن يبوح العود بأسراره؟

* لماذا نقول هكذا شيء… هو قادر على أن يرسم أحلاما كثيرة ويخلق رؤى كثيرة، ويساهم في تحويل القبح إلى جمال، ويعطي فرصة للناس لكي ترى الحياة بطريقة أجمل، وبالتالي إذا كان مبدع فسيكون أول المستمتعين بهذا الشيء. أنا واحد من الناس حين أعزف، أعزف لنفسي، وأعزف لحاجتي للعزف، حتى وإن كان عندي حفل أمام جمهور، وأنا مرتبط به، لكن لم أشعر أبدا أن هذا عمل أؤديه، أشعر أنه لقاء على درجة كبيرة من الحب بيني وبين الناس لذلك أنا أول المستمتعين. إذا حصل أن الظرف المحيط بي مكان، أدوات، جمهور، أي شيء، لم يكن بهذه الدرجة أنغلق على ذاتي وأعزف لنفسي، وبالتالي ربما أشيع بعض الأفكار، لكن لا أشيع نفسي حين أعزف، وليس مطلوب من العازف أن يشيع نفسه، بالعكس المطلوب من الموسيقي أن يحول كل ما حوله إلى جمال مهما كان قبيحا.

- أقصد أيضا جنازة الامتلاء الباذخ بالحياة؟

* هي قراءتك لهذه الأشياء.. ترجع لوعيك والتقاطك لها وقراءتنا لهذه الأشياء أيضا ترجع لنفس الأسباب. ثمة من يعيش الحياة بكل البذخ الموجود فيها، وبعض الناس يعيشونها بكل التقشف الممكن، والاثنين لهم الحق من وجهة نظر النقطة التي هم فيها، لأن كل واحد ينظر للحياة حسب وعيه ويفسرها حسب طريقته. أنا لست مع أن تعيش الحياة بالطول والعرض، لمجرد أنه ضروري أن يحيا هكذا. أنا مع أن الواحد يكون مهم في محيطه، ومؤثر في محيطه، وبالتالي قادر على أن يلعب دورا ما، في أن يكون ايجابيا مع كل شيء حوله.

- ومواصفات العازف المنفرد؟

* هي كل شيء مهم في الحياة، غير أن يتمرّن 10 أو 12 ساعة في اليوم، غير ثقافة عميقة، غير تمرين متواصل في السماع لكل موسيقات العالم. كل شيء مهم، وأيضا أن يمتلك رؤية لمستقبله.

هل تنبأت لاسماء بعينها بالنجاح

* ولازلت، هناك عدد كبير من الشباب راهنت عليهم في أيام تدريسي في المعهد العالي للموسيقى وفعلا الكثير منهم نجحوا، عندك مثلا يسرى الذهبي من طلبتي وأعطيتهم كل شيء ليصبحوا “سووليست” زهور دربال أيضا، شقرون أيضا من مجموعة الشباب الذين ذهبوا لفرنسا لإكمال دراسات علمية وعادوا بشهادات وبعضهم الآن يدير معاهد، فعلا لهم مستقبل كبير، الآن أشعر أن تونس بدأت تهتم بأبنائها، تحديدا دورة هذا العام لمهرجان قرطاج فيه وجود للفنان التونسي والمواهب التونسية الشابة كلهم خريجي معاهد ولهم مستوى محترم جدا. شعرت براحة وأنا أقرأ برنامج هذه السنة، مهم أن الأسماء التونسية بدأت تشارك، ستجد الآن أن هذه الخلايا النائمة كما يسمونها حينما يصفون الإرهاب، أنا أقول أن هذه الخلايا النائمة، نائمة في كل مجالات الحياة لكن بحاجة إلى استفزاز إيجابي أو سلبي إذا تستفزها إيجابيا تكون النتيجة إيجابية وتستفزها سلبية تأخذ نتيجة سلبية، أشكالها متعددة لكن في الفن مجرد أن تركوا لهم الفرصة سترى خلال سنة أو سنتين بروز تجارب كثيرة مهمة.

- ماذا تقول في الفنان التونسي رضا الشمك؟

* هو صديقي وعازف ممتاز، هو فنان على مستوى التلحين وعلى مستوى التدريس وعلى كل المستويات. رضا فنان.

- قصة حب شرقية ؟ أرى أنه ثمة حياد على مستوى تسمية القطعة الموسيقية؟

* اسم القطعة يستحسن ألا يعطي المعنى كي لا يحدد المتلقي بفكرة واحدة. قصة حب شرقية هي أفق مفتوح لأشكال متعددة من الحب والتعبير ومن البحث في نفس الوقت، بمعنى أنها تقف على مقامات تستخدم بشكل خاص في البادية في العراق وفي الجزيرة. الفكرة هي فكرة العزف بيد واحدة وكيف أن اليدان تشكل علاقة بين حبيبين. بين الرجل والمرأة، أو بين أي شكلين من أشكال الحب، كيف يمكن أن يصير العود مساحة الحياة، واليدان هما طرفا قصة الحب. هي مفتوحة على احتمالات كثيرة. صرت أفضّل في الفترة الأخيرة أن أترك المتلقي يفكر كثيرا في موضوع القطعة وأن تمنح سرا خاصا من واحد لآخر، لكن أن أضعه في إطار واحد هذا أحيانا ضد النص الموسيقي.

- ” إنشاء الله يتحول التراب بيدك إلى ذهب “؟؟

* هذه دعوة الأم العظيمة… التي ربتنا كيف يمكن أن تكون الأخلاق والتسامح والكرم حتى على الناس الذين أساؤوا لنا. أشياء كثيرة تعلمناها. الله حبانا بوالدين من أحسن ما نتمنى في حياتي.

- كي يرى الموسيقى، صنع لنفسه كمانا من زجاج؟؟

* هذا مقطع من قصيدة لشمبورسكا الشاعرة الشفافة والعظيمة. استوقفتني هذه الجملة كثيرا وحولتها إلى فيلم قصير من إخراجي بتعاون مع التلفزيون المصري. حاولت أن أصف كيف يمكن للواحد أن يرى الموسيقي. هل يمكن أن ترى الموسيقى وهي الشيء الغير مرئي؟ هي فقط عبر الحس، عبر السمع تتعامل معها على درجة كبيرة، الجملة استوقفتني وفضائها أيضا استوقفني، ولذلك فكرت كثيرا في مضمونها وعملت هذا الفيلم بأربعة دقائق ونصف أخرجته في تجربة جديدة حين يعمل الفنان خارج اختصاصه. كيف يعبر؟ فاخترت هذا الموضوع خارج اختصاصي و أنا أحب السينما.

- إلى أي مدى يمكن الحديث عن الالتزام في موسيقى نصير شمه؟

* يدور حديث كثير عن الالتزام. أنا أعتقد أن كل إنسان يلتزم بما هو تشكل عليه، وقام عليه من قناعات سوى سلبية أو ايجابية. ثمة من يلتزم بالهبوط لأنه هو مشروعهم، وهو ملتزم لكن بالهبوط، وثمة من هو ملتزم بالجدية، وآخر بهدف ما. أنا مثل أي شخص له أولويات وله ثوابت في حياته وأعمل من أجل ذلك. العمل الفني يأخذ شكل ثوابته فيما بعد وشكل قناعاته وبالتالي إن سميت ملتزمة أو كلاسيكية أو معاصرة أو جدية هذه في النهاية تشبه قناعاتي.

- نصير شمه الشاعر؟

* أنا لا أستطيع أن أدعي الشعر لكني أعشق الشعر، وأتعامل معه كما أتعامل مع الموسيقى وربما أجد في الشعر الفضاء العظيم للتعبير، وأحيانا تغريني الورقة والقلم على تسطير أشياء كثيرة أشعر أنها مهمة أن تُكتب ولكن كلها تبقى حبيسة، خاصة بي، لأنها جزء من يومياتي، من ذكرياتي، من ومضات تمر بي وأنا في الطائرة، وأنا على المسرح، سرعان ما أسجلها لكنها لا تشبه أحدا. منذ بدأت الكتابة لم أكتب شيئا يشبه أي أحد من الشعراء. حتى نظرتي للشعر هي من بوابة الموسيقى، بوابة الروح الموسيقية. كتبت لكن لا أدري إن كان شعرا.. بعض الأصدقاء قالوا جيد جدا ويستحق النشر لكن لا يمكن طبعا أن أنشر شيئا ما.

- نصير شمه الرسام؟

* الرسم من أجمل الفضاءات وأنا أعشق مزج اللون وتحويل اللوحة إلى مئات الصور المتلاحقة وأبدأ بفكرة وأنتهي بفكرة أخرى ليس لها علاقة بما كنت أنوي رسمه. عندي قرابة 30 لوحة تشكيلية في التجريد أغلبها، لكن لم يطلع عليها أحد. تحليق الروح في مناخات أخرى أحيانا أشعر أني بحاجة أن أكون فيها.

- نصير شمه السياسي؟

* السياسة تقحم نفسها في كل شيء. لكني لست سياسيا. لدي وجهة نظر تجاه كل ما يحصل حولي.

- هل أنت محايد؟

* إطلاقا.

- فيديريكو غارسيا لوركا؟

* لوركا هذا شاعر الحرية والتمرد واللاّمنطق في زمانه والتحدي. كانت حياته حافلة بأشياء كثيرة من ولادته، لمواقفة، لانقطاعه عن كل ما يحيط به، حتى لحد إعدامه. كان يستحق عملا موسيقيا مهما، قدمته في غرناطة لأول مرة.

- ماذا قلت في حوار بين المتنبي والسياب؟

* قلت كل ما كان يمكن أن يقال بينهما.

- هل صمتا دائما تعلن حبك؟

* إعلان الحب بالصمت أجمل بكثير من الكلام. الحب منطقة عالية جدا لا يرقى لها الكلام للتعبير عنها.

- كيف تفاعل نصير شمه مع الأوضاع الأخيرة في لبنان؟ وهل تؤثر الحرب على الأغنية العربية مستقبلا؟

* هناك بعض الفنانين تشل حركتهم الصدمة، هذا ما يحدث مع الكثيرين، لكن هناك من اعتاد الحروب، نحن مثلنا. خرجنا من بلد عاش حروبا كثيرة. هذه الفئة تبدأ في الاستعداد من اليوم الثاني للمواجهة، وهذا ما حصل لي، في اليوم الثاني للحرب بدأت بالاتصال بالشعراء والمطربين بغرض جمع عدد كبير من الفنانين، الشعراء يؤلفون والمطرب يغني، نغني ضد الحرب، مع الإنسان. وحصل أن كان لي الحفل الشهري بدار الأوبرا المصرية في 11/ 08 / 2006 فطلبت من عبد المنعم رئيس دار الأوبرا أن نحوّل تلك الحفلة إلى حفلة جماعية تضامنية كبيرة مع الشعب اللبناني، فوافق فورا. ساعدنا وزير الثقافة المصري واعتبرها أول حفلة تضامنية في العالم العربي بذلك الشكل وتبرّعنا بجهودنا كلها، أردنا أن نشرّك كل الدول العربية واتصلنا بفنانيها، حضروا جميعا ما عدى صابر الربيعي الذي استغربت تصرف مدير أعماله معي رغم أني اتصلت به شخصيا. قال أنه سيتصل بي لاحقا لكنه لم يفعل. استأت كثيرا من هذا السلوك الغريب وصابر حرم تونس من أن تكون موجودة وفهمت لماذا يخسر حفلات كثيرة. يمكن أن يكون صابر لا يعلم أني اتصلت بمدير أعماله رغم أنه كان بامكاني الاتصال به شخصيا على هاتفه الخاص لكني استغربت من تصرف مدير أعماله معي. حرموا تونس من المشاركة في تلك الليلة فقد كانت فترة ضيقة جدا وحضر خالد سليم ومحمد الحلو وإبراهيم الحفناوي ومي فاروق ووسام من مصر، كما حضر مجد القاسم من سوريا، وأسماء المنوّر من المغرب، حسين قرشي من السعودية، نسرين من لبنان، عادل محمود من البحرين وتخلّف مدحت صالح دون اعتذار.

- كيف تصف المقاومة؟

* كانوا أبطالا بكل معنى الكلمة. صدّروا روائع عجزت عنها الجيوش العربية جميعها، المقاومة يحكمها الإيمان، الجيوش العربية يحكمها الترهّل. في كتاب صدر حديثا يصنّف حزب الله كأقوى ميليشيا تنظيما في العالم قهر أول جيش في العالم. لقد هزمهم وهربوا مثل الفئران إلى جحورهم. لذلك انتصر كل الشارع العربي – حتى دون اتفاق – لحزب الله. ثمة عدة نقاط، لبنان كلما هدأ قليلا سياحيا، اقتصاديا، اجتماعيا، سياسيا إلا وعاد إليه الشر ويضرب من قبل إسرائيل بشكل ما، حتى يعود إلى عشرين سنة إلى الوراء، حتى يعود للبناء، لبنان منهك تماما بهذا الشكل. ثم محاولة إبعاد الصورة عن فلسطين والعراق، ما حصل في الأيام الأخيرة في العراق حصل في سنة. كانوا يعتقدون بوجود شرق أوسط جديد دون وجود حزب الله. فحدث أن تهشمت صورة الجندي الإسرائيلي وخلفها أمريكا بشكل هشم تلك الأسطورة، أسطورة الجندي الإسرائيلي الأقوى في العالم. حزب الله بإيمانهم كسروا هذه الأسطورة. نريد شرق أوسط بمواصفاتنا نحن لا بمواصفاتهم.

- من العامرية إلى قانا.. ماذا يمكن أن يحدث معك كفنان؟

* أنا قدمت عمل منذ أيام وهو قصيد للشاعر الفلسطيني ماجد أبو هوش: ” في قانا.. لم تعد الشبابيك تنادي على بائع الحليب هذا الصباح / في قانا.. ثمة امرأة غير قادرة على البكاء / في قانا.. لا أثر لرائحة الخبز والقهوة هذا الصباح / في قانا.. لن تزدحم المدرسة بالأطفال هذا العام. افتتحنا الحفل بالجرح الأول: القدس، ثم عن الشهيد، ثم عن قانا، ثم رجال الله الغالبون، ثم عن لبنان والعمل عبارة عن مناجاة لفيروز أو خطاب لها. ألتقط كل ذلك من عيون الشعب العربي في كل مكان وعلى الشاشات. هذه الأعمال المفروض تستمر وتعيش مع الأجيال القادمة، لا تبقى محبوسة في لحظتها أو حالتها، يجب أن تحيا وتستمر.

- ماذا عن العودة إلى الوطن الأول، إلى العراق. ألم يحن الوقت بعد؟

* العودة أكيدة. كنت قد أعلنت عجزي عن العودة لبلدي عندما كانت ترزح تحت الدكتاتورية، فهل أعود إليها تحت الاحتلال؟ كلاهما مرض وبائي، مرض قاتل. سأعود بالتأكيد بعد الانسحاب الأمريكي من العراق، الأمريكان يحاولون الخروج الآن والتفاوض مع المقاومة بعد الخسائر الكثيرة التي ألحقتها بصفوفهم، يفاوضون للانسحاب حفاظا على ماء الوجه. العراق يحتاجني في الخارج أكثر من الداخل.

- كيف تقرأ مواقف بعض المثقفين العرب السلبي حيال المقاومة؟

* لا نتهمهم بالعمالة، توجّهاتهم معروفة هي العمالة. ثم لكل واحد وجهة نظر خاصة، هناك حالة من الاعتداء الواضحة، الاتحاد السوفيتي في كتاب صدر أخيرا يبين أنه لم يسقط سياسيا أو عسكريا وإنما سقط ثقافيا. ثمة مقل يقول أنا مع أخي ضد الجار، ومع الجار ضد العدوّ.. يكفينا شرف هؤلاء الأبطال أوقفوا العدو الإسرائيلي وهشموه في مواقعه. أنا كإنسان ضد كل شكل من أشكال العنف، وضد أي حرب في أي مكان. العالم مازال مليء بالشر، إسرائيل بؤرة شر.

- ولبنان، كيف ينجو من كل ذلك؟

* هو انتصار. لا وجود لهزيمة على الإطلاق، انتصار يجب أن يفرح له كل العرب. يجب ألا نتكلم بحزبية وطائفية، من يفعل ذلك له ضيق أفق وضيق في الثقافة. الإنسان بالمطلق هو المهم. قيمته من قيمة إبداعه وعمله وإضافاتها.

- ما هي مشاريعك المستقبلية؟

* مازلنا نريد تقديم هذا العرض:” لبنان.. نبني ونعلُو بالحلم ” نريد تقديمه في معظم الدول العربية، كل حقوق هذا العرض تبرعنا بها، كلها، حتى حقوق البث التلفزيوني ونأمل أن تتعاون معنا كل الأطراف. كنت في إيطاليا وقدمت ليلة مهمة جدا في مهرجان ” سالارنو ” في مدينة ” أرب بالو ” الشجرة الجميلة، وعندي عروض كثيرة ففي 12 / 09 نقدم حفل كبير بدار الأوبرا المصرية مع بداية الموسم الثقافي الشتوي يشترك فيه 6 عازفين من أوروبا: ايطاليا، اسكتلندا، اسبانيا وعازفين من مصر. ستكون ليلة سلام حقيقية، حوار ثقافي إبداعي بين الحضارات.


  1. 3
أنشأ هذا الموقع ويدير تحريره الكاتب الأديب مجدى شلبى